فرنسا الجديدة
عام 1789 أي قبل قرابة قرنين مضيا، اتجه الفرنسيون إلى حديقة في باريس، وكانت فرنسا حينها ملكية ليتفقوا سلمياً على السلطة السياسية التي يريدون أن تحكمهم. وقتها كان هناك جدل بين الفرنسيين، فئة كانت تطالب بتوسيع صلاحيات الملك، وفي المقابل كان هناك فئة تطالب بتقليصها لصالح البرلمان وتوسيع المشاركة الشعبية في صناعة القرار. جلس المطالبون بتوسيع صلاحيات الملك إلى (يمين) المنصة، وجلس المطالبون بتقليصها، وتوسيع المشاركة الشعبية إلى (يسار) المنصة، وفاز حينها اليساريون بالأكثرية عند التصويت، - وبقي التصنيف (يمين ويسار) قائماً حتى اليوم، ليس في فرنسا وحدها، وإنما في كل أقطاب العالم. فكل من يطالب بتوسيع المشاركة الشعبية يُصنف سياسياً (يسارياً)، ومن يتبنى مواقف مناوئة يُصنف (يمينياً)، وبقيت السلطة يتداولها (اليساريون) ممثلين في فرنسا بالحزب الاشتراكي، وفي المقابل (اليمِينيون) ويمثلهم (الحزب الجمهوري)، هؤلاء تارة، وهؤلاء تارة أخرى، وبقي هذان الحزبان يتناوبان على السلطة طوال القرنين الماضيين، وحتى الأحد الماضي، أو كما سماه بعض الفرنسيين (الأحد الكبير)، حيث سقط هذا التقليد وطفا على السطح توجه سياسي آخر، لا ينتمي إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، تحت اسم (إلى الأمام). هذا التوجه كان في واقعه تمرد حقيقي على تلك (الثنائية) التقليدية، المتمثلة في الحزبين الفرنسيين الكبيرين، فسقط اليمِينيون، ومعهم اليساريون، وطفا على السطح اليمينيون الراديكاليون، وتمثلهم (الجبهة الوطنية) الحزب الذي تتزعمه ماري لوبن، وفي المقابل توجه شبابي جديد، لا علاقة له بالأحزاب التقليدية الفرنسية، تحت مسمى (إلى الأمام) يتزعمه شاب اسمه «إيمانويل ماكرون» لم يتجاوز الأربعين من عمره.
إقصاء الناخب الفرنسي للحزبين الرئيسيين الذين ظلا يتسيّدان الساحة السياسية الفرنسية، ويمثلانها رئاسياً وبرلمانياً، من شأنه كما يؤكد أغلب المحللين، إنشاء (فرنسا جديدة)، تختلف تماما عن فرنسا التي عرفناها، يتنازع السلطة فيها اليمينيون الراديكاليون الإقصائيون، في مقابل حركة (شبابية جديدة)، ذات تفكير وثوابت ومنطلقات، وربما مناهج سياسية مختلفة عن نهج الحزبين التقليديين. كيف سيكون منهج وشكل هذا التوجه الشبابي الجديد، وما هي ثوابته، وكيف ستكون تعاملاته السياسية في الداخل والخارج، أسئلة ما زال يلفُّ إجاباتها شيء من الغموض، ويكتنفها كثير من الضبابية، ولن تتضح بجلاء إلا بعد أن يتسلم الشباب الجدد مقاليد الحكم فعلياً، ويدخل «إيمانويل ماكرون» قصر الإليزيه.
إلى اللقاء
نقلا عن الجزيرة